سورة النازعات - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النازعات)


        


{إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيمَا ذُكِرَ من قصة فرعونَ وما فَعَل وما فُعلِ به {لَعِبْرَةً} عظيمةً {لّمَن يخشى} أي لمَنْ مِنْ شأنِه أنْ يخشَى وهو مَنْ مِنْ شأنِه المعرفةُ وقولُه تعالَى: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} خطابٌ لأهل مكةَ المنكرين للبعث بناءً على صعوبتِه في زَعْمِهم بطريقِ التوبيخِ والتبكيتِ بعدَ ما بيّنَ كمالُ سهولتِه بالنسبةِ إلى قُدرةِ الله تعالى بقولِه تعالى: {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة} أي أخلقُكُم بعد موتِكم أشدُّ أي أشقُّ وأصعبُ في تقديرِكم {أَمِ السماء} أي أمْ خلقُ السماءِ على عِظَمِها وانطوائِها على تعاجيبِ البدائعِ التي تحارُ العقولُ عن ملاحظةِ أدناهَا كقولِه تعالى: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} وقولِه تعالى: {أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وقولِه تعالى: {بناها} الخ، بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خلقِها المستفادِ من قولِه: أمِ السماءُ وفي عدمِ ذكرِ الفاعلِ فيه وفيما عُطفَ عليهِ من الأفعالِ من التنبيهِ على تعينِه وتفخيمِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما لا يَخْفى. وقولُه تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا} بيانٌ للبناء أي جعلَ مقدارَ ارتفاعِها من الأرضِ وذهابِها إلى سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً مسيرةً خمسمائةِ عامٍ {فَسَوَّاهَا} فعدَّلها مستويةً ملساءَ ليسَ فيها تفاوتٌ ولا فطورٌ أو فتممَها بما عَلم أنها تتمُّ بهِ من الكواكبِ والتداويرِ وغيرِها مما لا يعلمُه إلا الخلاَّقُ العليمُ من قولِهم: سَوَّى أمرَ فلانٍ إذا أصلَحَهُ {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعلَه مظلماً يقال: غطشَ الليلُ وأغطشَهُ الله تعالَى كما يقالُ: ظلَم وأظلَمَهُ وقد مَرَّ هذا في قولِه تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} ويقال أيضاً أغطشَ الليلُ كما يقالُ أظلمَ {وَأَخْرَجَ ضحاها} أي أبرزَ نهارَهَا عبرَ عنْهُ بالضُّحىَ لأنه أشرفُ أوقاتهِ وأطيبُها فكانَ أحقَّ بالذكرِ في مقامِ الامتنانِ وهو السرُّ في تأخيرِ ذكرِ الليلِ وفي التعبيرِ عن إحداثهِ بالاخراجِ فإنَّ إفاضةَ النورِ بعد الظلمةِ أتمُّ في الإنعامِ وأكملُ في الإحسانِ وإضافةُ الليلِ والضُّحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتها ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطةِ الشمسِ أي أبرزَ ضوءَ شمسِها والتعبيرُ عنه بالضُّحى لأنَّه وقتُ قيامِ سُلطانها وكمالِ إشراقِها.


{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} أي بسطَها ومهَّدها لسكْنى أهلِها وتقلبِهم في أقطارِها وانتصابُ الأرضَ بمضمرٍ يفسرُه دحاهَا {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا} بأنْ فجرَ منها عيوناً وأجْرَى أنهاراً {ومرعاها} أي رعيَها وهو في الأصلِ موضعُ الرَّعِي وقيلَ: هو مصدرٌ ميميٌّ بمَعنى المفعولِ، وتجريدُ الجملةِ عن العاطفِ إما لأنَّها بيانٌ وتفسيرٌ لدحاهَا وتكملةٌ له فإنَّ السكْنى لا تتأتَّى بمجرد البسطِ والتمهيدِ بلْ لا بدَّ من تسوية أمرِ المعاشِ من المأكلِ والمشربِ حتماً وإما لأنها حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قدْ عندَ الجمهورِ أو بدونِه عند الكوفيينَ والأخفشِ، كما في قولِه تعالى: {أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} {والجبال} منصوبٌ بمضمرٍ يفسرُهُ {أرساها} أي أثبتَها وأثبتَ بها الأرضَ أن تميدَ بأهلِها وهذا تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ الرسوَّ المنسوبَ إليهَا في مواضعَ كثيرةٍ من التنزيلِ بالتعبيرِ عنها بالرَّوَاسِي ليسَ من مقتضياتِ ذواتِها بلْ هو بإرسائِه عزَّ وجلَّ ولولاهُ لما ثبتتْ في أنفسِها فضلاً عنْ إثباتِها للأرضِ وقرئ: {والأرضُ} {والجبالُ} بالرفعِ على الابتداءِ ولعلَّ تقديمَ إخراجِ الماءِ والمَرْعى ذكراً مع تقدمِ الإرساءِ عليهِ وجُوداً وشدةِ تعلقِه بالدَّحْوِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ المأكلِ والمشربِ معَ ما فيهِ من دفعِ توهمِ رجوعِ ضميرَيْ الماءِ والمَرْعَى إلى الجبالِ وهذا كما ترَى يدلُّ بظاهرِه على تأخرِ دَحْوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ وما فيهَا كمَا يُروى عن الحسنِ مِنْ أنَّه تعالَى خلقَ الأرضَ في موضعِ بيتِ المقدسِ كهيئةِ الفهرِ عليه دُخانٌ ملتزقٌ بها ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفهرَ في موضعِها وبسطَ منها الأرضَ وذلكَ قولُه تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما} الآيةَ وقد مرَّ في سورةِ حم السجدةِ أنَّ قولَه تعالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ} إلى قولِه تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ} الآيةَ إنْ حُملَ ما فيهِ من الخلقِ وما عطفَ عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ لا على تقديرِها فهُو وما في سورةِ البقرةِ من قولِه تعالى: {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات} يدلانِ على تقدم خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها وعليه إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ. وقد رُويَ أنَّ العرشَ كانَ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعالَى أحدثَ في الماء اضطراباً فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقي على وجه الماءِ فخلقَ فيه اليبوسةَ فجعلَهُ أرضاً واحدةً ثم فتقَها فجعلها أَرضينَ وأما الدخانُ فارتفعَ وعلاَ فخلقَ منه السمواتِ ورُويَ أنَّه تعالى خلقَ جرمَ الأرضِ يومَ الأحدِ ويومَ الاثنينِ ودحاهَا وخلقَ ما فيها يومَ الثلاثاءِ ويومَ الأربعاءِ وخلقَ السمواتِ وما فيهن يومَ الخميسِ ويومَ الجمعةِ وخلقَ آدمَ عليه السلامُ في آخرِ ساعةٍ منه وهيَ الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ فالأقربُ كما قيلَ تأويلُ هذه الآيةِ بأن يُجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذِكرِ ما ذُكِرَ من بناءِ السماءِ ورفعِ سَمكها وتسويتِها وغيرِها لا إلى أنفسِها ويحملُ بعديةُ الدَّحْوِ عنْها عَلى البعديةِ في الذكرِ كما هُو المعهودُ في ألسنة العربِ والعجمِ لا في الوجود لما عرفتَ من أنَّ انتصابَ الأرضِ بمضمرٍ مقدمٍ قد حُذِفَ على شريطةِ التفسيرِ لا بما ذُكِرَ بعدَهُ ليفيدَ القصرَ وتتعينَ البعديةُ في الوجودِ، وفائدةُ تأخيرِه في الذكرِ إما التنبيهُ على أنَّه قاصرٌ في الدلالة على القدرة القاهرةِ بالنسبةِ إلى أحوالِ السماءِ وإما الإشعارُ بأنَّه أدخلُ في الإلزامِ لما أن المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلكَ أظهرُ وإحاطتَهم بتفاصيلِ أحوالِه أكملُ وليسَ ما رُويَ عن الحسنِ نصاً في تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ فإن بسطَ الأرضِ معطوفٌ على إصعادِ الدخانِ وخلقِ السماءِ بالواوِ التي هي بمعزلٍ من الدلالةِ على الترتيبِ، هذا على تقديرِ حملِ ما ذكرَ في آياتِ سورةِ السجدةِ من الخلقِ وما عطفَ عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ وأما إذا حُملتْ على تقديرِها فلا دلالةَ فيها إلا على تقدمِ تقدير الأرضِ وما فيهَا على إيجاد السماءِ كما لا دلالةَ على الترتيب أصلاً إذا حُملتْ كلمةُ ثُمَّ فيها وفيمَا في سورةِ البقرةِ على التراخِي في الرتبةِ وقد سلفَ تفصيلُ الكلامِ في السورةِ المذكورةِ.


وقوله تعالى: {متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم} إما مفعولٌ لهُ أي فعلَ ذلكَ تمتيعاً لكُم ولأنعامِكم لأنَّ فائدةَ ما ذُكرَ من البسطِ والتمهيدِ وإخراجِ الماءِ والمَرْعى واصلةٌ إليهم وإلى أنعامِهم فإن المرادَ بالمَرْعى ما يعمُّ ما يأكلُه الإنسانُ وغيرُه بناءً على استعارةِ الرَّعي لتناولِ المأكولِ على الإطلاقِ كاستعارةِ المرسنِ للأنفِ. وقيلَ: مصدرٌ مؤكدٌ لفعلِه المضمرِ أي متَّعكُم بذلكَ متاعاً أو مصدرٌ من غير لفظِه فإنَّ قولَه تعالَى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها} في معنى متَّع بذلكَ وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى} أي الداهيةُ العُظمى التي تطمُّ على سائرِ الطاماتِ أي تعلُوها وتغلبُها وهي القيامةُ أو النفخةُ الثانيةُ وقيلَ: هي الساعةُ التي يُساقُ فيها الخَلائقُ إلى محشرِهم وقيلَ: التي يُساقُ فيها أهلُ الجنةِ إلى الجنةِ وأهلُ النارِ إلى النارِ شروعٌ في بيانِ أحوالِ معادِهم إثرَ بيانِ أحوالِ معاشِهم بقولِه تعالى: {متاعا لَّكُمْ} الخ، والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدَها على ما قبلَها عما قليلٍ كما ينبىءُ عنه لفظُ المتاعِ {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى} قيلَ: هو بدلٌ من إذَا جاءتْ والأظهرُ أنه منصوبٌ بأَعْنِي كما قيلَ تفسيراً للطامةِ الكُبرى فإن الإبدالَ منها بالظرف المحضِ مما يُوهن تعلقَها بالجوابِ ويجوزُ أن يكونَ بدلاً من الطامةِ الكُبرى مفتوحاً لإضافتِه إلى الفعلِ على رأي الكوفيينَ أي يتذكرُ فيه كلُّ أحدٍ ما عملَهُ من خيرٍ أو شرَ بأنْ يشاهدَهُ مدوناً في صحيفةِ أعمالِه وقد كانَ نسيَهُ من فرطِ الغفلةِ وطولِ الأمدِ كقولِه تعالى: {أحصاه الله وَنَسُوهُ} ويجوزُ أنْ تكونَ ما مصدريةً.

1 | 2 | 3 | 4